كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والقول الأوّل أظهر لقوله: {يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال} والباء من بيوت تضم، وتكسر كلّ ذلك ثابت في اللغة، ومعنى {أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ}: أمر وقضى، ومعنى {تُرْفَعَ} تبنى، قاله مجاهد، وعكرمة، وغيرهما، ومنه قوله سبحانه: {وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد مِنَ البيت} [البقرة: 127].
وقال الحسن البصري، وغيره: معنى ترفع تعظم، ويرفع شأنها، وتطهر من الأنجاس، والأقذار، ورجحه الزجاج وقيل: المراد بالرفع هنا مجموع الأمرين، ومعنى {يُذْكَرَ فِيهَا اسمه}: كلّ ذكر لله عزّ وجلّ، وقيل: هو التوحيد، وقيل: المراد تلاوة القرآن، والأوّل أولى.
{يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ} قرأ ابن عامر، وأبو بكر {يسبح} بفتح الباء الموحدة مبنيًا للمفعول، وقرأ الباقون بكسرها مبنيًا للفاعل إلاّ ابن وثاب، وأبا حيوة، فإنهما قرآ بالتاء الفوقية، وكسر الموحدة، فعلى القراءة الأولى يكون القائم مقام الفاعل أحد المجرورات الثلاثة، ويكون رجال مرفوع على أحد وجهين: إما بفعل مقدّر، وكأنه جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل: من يسبحه؟ فقيل يسبحه رجال.
الثاني: أن رجال مرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وعلى القراءة الثانية يكون رجال فاعل يسبح، وعلى القراءة الثالثة يكون الفاعل أيضًا رجال، وإنما أنث الفعل لكون جمع التكسير يعامل معاملة المؤنث في بعض الأحوال.
واختلف في هذا التسبيح ما هو؟ فالأكثرون حملوه على الصلاة المفروضة، قالوا: الغدوّ صلاة الصبح، والآصال: صلاة الظهر والعصر والعشاءين، لأن اسم الآصال يشملها، ومعنى بالغدوّ والآصال: بالغداة والعشي، وقيل: صلاة الصبح والعصر، وقيل: المراد صلاة الضحى، وقيل: المراد بالتسبيح هنا معناه الحقيقي، وهو: تنزيه الله سبحانه عما لا يليق به في ذاته، وصفاته، وأفعاله، ويؤيد هذا ذكر الصلاة والزكاة بعده، وهذا أرجح مما قبله، لكونه المعنى الحقيقي مع وجود دليل يدل على خلاف ما ذهب إليه الأوّلون، وهو ما ذكرناه.
{لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله} هذه الجملة صفة لرجال، أي: لا تشغلهم التجارة والبيع عن الذكر؛ وخصّ التجارة بالذكر؛ لأنها أعظم ما يشتغل به الإنسان عن الذكر.
وقال الفراء: التجارة لأهل الجلب، والبيع ما باعه الرجل على بدنه، وخصّ قوم التجارة هاهنا بالشراء لذكر البيع بعدها، وبمثل قول الفراء.
قال الواقدي، فقال: التجار هم: الجلاب المسافرون، والباعة: هم المقيمون، ومعنى {عَن ذِكْرِ الله}: هو ما تقدّم في قوله: {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه} وقيل: المراد الآذان، وقيل: عن ذكره بأسمائه الحسنى أي: يوحدونه، ويمجدونه.
وقيل: المراد عن الصلاة، ويردّه ذكر الصلاة بعد الذكر هنا.
والمراد بإقام الصلاة إقامتها لمواقيتها من غير تأخير، وحذفت التاء؛ لأن الإضافة تقوم مقامها في ثلاث كلمات جمعها الشاعر في قوله:
ثلاثة تحذف تاءاتها ** مضافة عند جمع النحاة

وهي إذا شئت أبو عذرها ** وليت شعري وإقام الصلاة

وأنشد الفراء في الاستشهاد للحذف المذكور في هذه الآية قول الشاعر:
إن الخليط أجدوا البين وانجردوا ** وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا

أي: عدة الأمر، وفي هذا البيت دليل على أن الحذف مع الإضافة لا يختص بتلك الثلاثة المواضع.
قال الزجاج: وإنما حذفت الهاء لأنه يقال: أقمت الصلاة إقامة، وكان الأصل إقوامًا، ولكن قلبت الواو ألفًا، فاجتمعت ألفان فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين، فبقي أقمت الصلاة إقامًا، فأدخلت الهاء عوضًا من المحذوف، وقامت الإضافة هاهنا في التعويض مقام الهاء المحذوفة، وهذا إجماع من النحويين. انتهى.
وقد احتاج من حمل ذكر الله على الصلاة المفروضة: أن يحمل إقامة الصلاة على تأديتها في أوقاتها فرارًا من التكرار، ولا ملجىء إلى ذلك، بل يحمل الذكر على معناه الحقيقي كما قدّمنا.
والمراد بالزكاة المذكورة هي: المفروضة، وقيل: المراد بالزكاة طاعة الله، والإخلاص، إذ ليس لكلّ مؤمن مال.
{يخافون يَوْمًا} أي: يوم القيامة، وانتصابه على أنه مفعول للفعل لا ظرف له، ثم وصف هذا اليوم بقوله: {تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار} أي: تضطرب، وتتحوّل، قيل: المراد بتقلب القلوب انتزاعها من أماكنها إلى الحناجر فلا ترجع إلى أماكنها، ولا تخرج، والمراد بتقلب الأبصار هو: أن تصير عمياء بعد أن كانت مبصرة.
وقيل: المراد بتقلب القلوب أنها تكون متقلبة بين الطمع في النجاة، والخوف من الهلاك، وأما تقلب الأبصار فهو: نظرها من أيّ ناحية يؤخذون، وإلى أيّ ناحية يصيرون.
وقيل: المراد تحوّل قلوبهم وأبصارهم عما كانت عليه من الشك إلى اليقين، ومثله قوله: {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} [ق: 22].
فما كان يراه في الدنيا غيًا يراه في الآخرة رشدًا.
وقيل: المراد: التقلب على جمر جهنم، وقيل غير ذلك.
{لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} متعلق بمحذوف، أي: يفعلون ما يفعلون من التسبيح، والذكر، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة ليجزيهم الله أحسن ما عملوا أي: أحسن جزاء أعمالهم حسبما وعدهم من تضعيف ذلك إلى عشرة أمثاله، وإلى سبعمائة ضعف، وقيل: المراد بما في هذه الآية ما يتفضل سبحانه به عليهم زيادة على ما يستحقونه، والأوّل أولى لقوله: {وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ} فإن المراد به التفضل عليهم بما فوق الجزاء الموعود به {والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي: من غير أن يحاسبه على ما أعطاه، أو أن عطاءه سبحانه لا نهاية له، والجملة مقرّرة لما سبقها من الوعد بالزيادة.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {الله نُورُ السموات والأرض} قال: يدبر الأمر فيهما نجومهما، وشمسهما، وقمرهما.
وأخرج الفريابي عنه في قوله: {الله نُورُ السموات والأرض} مثل نوره الذي أعطاه المؤمن {كَمِشْكَاةٍ} وقال في تفسير {زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} إنها التي في سفح جبل لا تصيبها الشمس إذا طلعت ولا إذا غربت {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ على نُورٍ} فذلك مثل قلب المؤمن نور على نور.
وأخرج عبد بن حميد، وابن الأنباري في المصاحف، عن الشعبيّ قال: في قراءة أبيّ بن كعب: {مثل نور المؤمن كمشكاة}.
وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في الآية قال: يقول مثل نور من آمن بالله كمشكاة، وهي الكوّه.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه: {مَثَلُ نُورِهِ} قال: هي خطأ من الكاتب هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة، قال: مثل نور المؤمن كمشكاة.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عنه أيضًا {الله نُورُ السموات والأرض} قال: هادي أهل السماوات والأرض {مَثَلُ نُورِهِ}: مثل هداه في قلب المؤمن {كَمِشْكَاةٍ} يقول: موضع الفتيلة كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار، فإذا مسته النار ازداد ضوءًا على ضوئه، كذلك يكون قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم ازداد هدى على هدى، ونورًا على نور، وفي إسناده عليّ بن أبي طلحة، وفيه مقال.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبيّ بن كعب {الله نُورُ السموات والأرض مَثَلُ نُورِهِ} قال: هو المؤمن الذي قد جعل الإيمان والقرآن في صدره، فضرب الله مثله، فقال {نُورٍ السموات والأرض مَثَلُ نُورِهِ} فبدأ بنور نفسه، ثم ذكر نور المؤمن، فقال: مثل نور من آمن به، فكان أبيّ بن كعب يقرؤها {مثل نور من آمن به} فهو المؤمن، جعل الإيمان والقرآن في صدره {كَمِشْكَاةٍ} قال: فصدر المؤمن المشكاة {فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح}: النور، وهو القرآن والإيمان الذي جعل في صدره {فِى زُجَاجَةٍ} و{الزجاجة} قلبه {كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّيٌّ} يقول كوكب مضيء {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة} والشجرة المباركة: أصل المبارك الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له {زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} قال: فمثله كمثل شجرة التفت بها الشجر، فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس على أيّ حال كانت، لا إذا طلعت ولا إذا غربت، فكذلك هذا المؤمن قد أجير من أن يضله شيء من الفتن.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس: أن اليهود قالوا لمحمد: كيف يخلص نور الله من دون السماء؟ فضرب الله مثل ذلك لنوره، فقال {الله نُورُ السموات والأرض مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} المشكاة كوّة البيت فيها مصباح، وهو: السراج يكون في الزجاجة، وهو: مثل ضربه الله لطاعته، فسمى طاعته نورًا، ثم سماها أنواعًا شتى {لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} قال: وهي وسط الشجر لا تنالها الشمس إذا طلعت، ولا إذا غربت، وذلك أجود الزيت {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء} بغير نار {نُّورٌ على نُورٍ} يعني بذلك: إيمان العبد وعلمه {يَهْدِى الله لِنُورِهِ مَن يَشَاء} وهو مثل المؤمن.
وأخرج الطبراني وابن عدي وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمر في قوله: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} قال: المشكاة جوف محمد صلى الله عليه وسلم، والزجاجة قلبه، والمصباح النور الذي في قلبه.
{يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة} الشجرة: إبراهيم {زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} لا يهودية ولا نصرانية، ثم قرأ {مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} [آل عمران: 67].
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن شمر بن عطية قال: جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال: حدّثني عن قول الله {الله نُورُ السموات والأرض مَثَلُ نُورِهِ} قال: مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم كمشكاة قال: المشكاة: الكوّة ضربها الله مثلًا لقمة فيها مصباح، والمصباح قلبه {المصباح فِي زُجَاجَةٍ} والزجاجة صدره {كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّيٌّ} شبه صدر محمد صلى الله عليه وسلم بالكوكب الدرّيّ، ثم رجع المصباح إلى قلبه، فقال: {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء} قال: يكاد محمد صلى الله عليه وسلم يبين للناس، ولو لم يتكلم أنه نبيّ، كما يكاد الزيت أن يضيء، ولو لم تمسسه نار.
وأقول: إن تفسير النظم القرآني بهذا ونحوه مما تقدّم عن أبيّ بن كعب وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ليس على ما تقتضيه لغة العرب، ولا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجوّز العدول عن المعنى العربي إلى هذه المعاني التي هي شبيهة بالألغاز والتعمية، ولكن هؤلاء الصحابة، ومن وافقهم ممن جاء بعدهم استبعدوا تمثيل نور الله سبحانه بنور المصباح في المشكاة، ولهذا قال ابن عباس: هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة كما قدّمنا عنه، ولا وجه لهذا الاستبعاد.
فإنا قد قدّمنا في أوّل البحث ما يرفع الإشكال ويوضح ما هو المراد على أحسن وجه، وأبلغ أسلوب، وعلى ما تقتضيه لغة العرب، ويفيده كلام الفصحاء، فلا وجه للعدول عن الظاهر، لا من كتاب، ولا من سنة، ولا من لغة.
وأما ما حكي عن كعب الأحبار في هذا كما قدّمنا، فإن كان هو سبب عدول أولئك الصحابة الأجلاء عن الظاهر في تفسير الآية، فليس مثل كعب رحمه الله ممن يقتدى به في مثل هذا.
وقد نبهناك فيما سبق: أن تفسير الصحابي إذا كان مستنده الرواية عن أهل الكتاب كما يقع ذلك كثيرًا، فلا تقوم به الحجة، ولا يسوغ لأجله العدول عن التفسير العربي، نعم إن صحت قراءة أبيّ بن كعب، كانت هي المستند لهذه التفاسير المخالفة للظاهر، وتكون كالزيادة المبينة للمراد، وإن لم تصح، فالوقوف على ما تقتضيه قراءة الجمهور من السبعة، وغيرهم ممن قبلهم، وممن بعدهم هو المتعين.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ} قال: هي المساجد تكرم، وينهى عن اللغو فيها، ويذكر فيها اسم الله، يتلى فيها كتابه {يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال} صلاة الغداة وصلاة العصر، وهما أوّل ما فرض الله من الصلاة فأحبّ أن يذكرهما، ويذكر بهما عباده.
وقد ورد في تعظيم المساجد، وتنزيهها عن القذر، وتنظيفها، وتطييبها أحاديث ليس هذا موضع ذكرها.
وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: إن صلاة الضحى لفي القرآن، وما يغوص عليها إلى غوّاص في قوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال}.